موقع معروف

النشرة القانونية

للاشتراك مجانًا بخدمة الأخبار القانونية التي تقدمها شبكة المحامين العرب، ومتابعة أهم الأخبار القانونية اليومية ، ارسل كلمة " اشترك - الإمارات " أو "Subscribe - uae" على الرقم التالي ثم اضف رقم الخدمة بقائمة جهات الإتصال لديكم

  أستعراض تاريخيًا   26/12/2020 أنسنة القانون أم أنسنة الإعلام

26 ديسمبر 2020 م - ٩ جمادي الأولى١٤٤٢ هـ

أنسنة القانون أم أنسنة الإعلام

بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في يوم الأربعاء الموافق السادس عشر من ديسمبر 2020م، وافق مجلس الوزراء على إضافة مادة جديدة إلى قانون العقوبات، تنص على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه، ولا تزيد على مائتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صور أو سجل أو بث أو نشر أو عرض، كلمات أو صورا لوقائع جلسة مُخصصة لنظر دعوى جنائية أثناء انعقادها بأي وسيلة كانت؛ بدون تصريح من رئيسها، وذلك بعد موافقة النيابة العامة، والمتهم، والمدعي بالحق المدني، أو ممثلي أي منهما، ويحكم بمصادرة الأجهزة أو غيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة، أو ما نتج عنها، أو محوه، أو إعدامه بحسب الأحوال».
ويأتي مشروع القانون سالف الذكر بهدف منع تصوير المتهمين إعلامياً لحين صدور حكم بات في القضايا التي يحاكمون بها حماية لهم، لأن الأصل في الإنسان البراءة، وهذا الأصل يتمتع به كل متهم حتى يصدر ضده حكم بات على نحو يجعل له الحق في ألا تلتقط له أي صورة في وضع يجعله محل ازدراء الآخرين أو شكوكهم.
ويأتي مشروع القانون آنف الذكر بعد ثلاثة أشهر من صدور القانون رقم (177) لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، متضمناً إضافة مادة جديدة برقم (113 مكرراً)، تحظر على مأموري الضبط أو جهات التحقيق الكشف عن بيانات المجني عليه في أي من جرائم هتك العرض وإفساد الأخلاق والتعرض للغير والتحرش. وفي تقريرها عن مشروع القانون قبل إصداره، تقول لجنة الشئون الدستورية والتشريعية: «تتنامى كثير من الظواهر السلبية التي تخالف الضمير الإنساني وتنحو به في اتجاهات تتعارض في مجملها مع قيم المجتمع من ناحية ومصالحه من ناحية أخرى، وربما جاز لنا أن نعول على القوانين وتفعليها في محاربة تلك الظواهر واحتوائها وتتطور الأزمات وما يتبعها من آثار قد تهدد أعراض الناس وقد جهد المشرع في احتواء تلك الأزمات والظواهر بالحفاظ على العرض والسمعة. وتعتبر جريمة هتك العرض وإفساد الأخلاق والتعرض للغير والتحرش من الجرائم التي تتعلق بالاعتداءات على الأشخاص وأعراضهم، …».
وفيما يتعلق بفلسفة مشروع القانون وأهدافه، يقول التقرير إنه «لما كان الدستور بالفقرة الأخيرة من المادة (96) قد ألزم الدولة – ضمن ما ألزمها به – بحماية المجني عليهم وفقاً لما ينظمه القانون. حيث جاء مشروع القانون المعروض من منطلق حرص الدولة على القيام بمسئولياتها الوطنية في حماية سمعة المجني عليه من خلال عدم الكشف عن شخصيته في الجرائم التي تتصل بهتك العرض وإفساد الأخلاق والتعرض للغير والتحرش الواردة بقانون العقوبات وقانون الطفل خشية إحجام المجني عليه عن الإبلاغ عن تلك الجرائم. كما أن إعادة النظر في القوانين بتغيير جملة أو تعديل بعض موادها أو الحذف أو الإضافة وما إلى ذلك يسير مع أسس المنطق السليم في تحقيق غاية المشرع من مواكبة الظروف المستجدة التي تطرأ على المجتمع ويكون نصب عينيه في ذلك رصد المتغيرات التي أفرزها الواقع العملي والحالات التي تحول دون الكشف عن الجرائم والوصول إلى مرتكبيها.
كما أنه جاء أيضاً بسبب عزوف بعض المجني عليهم من الإبلاغ عن الجرائم التي ترتكب ضدهم خوفاً – من وجهة نظرهم – من الفضيحة، في الجرائم الواردة بمشروع القانون المعروض».
والأحكام المستحدثة آنفة الذكر تأتي استكمالاً للحكم الوارد في المادة الخامسة والسبعين من قانون الإجراءات الجنائية، بنصها على أن «تعتبر إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التي تسفر عنها من الأسرار ويجب على قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة ومساعديهم من كتاب وخبراء وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها ومن يخالف ذلك منهم يعاقب طبقاً للمادة 310 من قانون العقوبات». كذلك، وفيما يتعلق بالطفل، تنص المادة 116 مكرر (ب) من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996م على أنه «مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها في قانون آخر، يعاقب بغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز خمسين ألف جنيهاً كل من نشر أو أذاع بأحد أجهزة الإعلام أي معلومات أو بيانات أو أي رسوم أو صور تتعلق بهوية الطفل حال عرض أمره على الجهات المعنية بالأطفال المعرضين للخطر أو المخالفين للقانون».
ويمكن إدراج كل هذه الأحكام تحت عنوان عام، هو «أنسنة القانون الجنائي»، والمراد به هو مراعاة الاعتبارات الإنسانية في منظومة العدالة الجنائية بكافة صورها وأشكالها ووسائلها، وبحيث يراعى المشرع حق المجني عليه في حماية خصوصياته وحق الجاني أو المتهم في احترام أصل البراءة، ولو اقتضى ذلك وضع بعض القيود على حق وسائل الإعلام في النشر وفي الحصول على المعلومات. والواقع أن الحكم سالف الذكر يمكن أن يشكل أيضاً نقطة البداية في أنسنة الإعلام.

فللإعلام وظيفة إنسانية كبرى لا يجوز إغفالها، وللإعلام دور تربوي لا يجوز الانحراف عنه سعياً وراء الإثارة وتحقيق السبق الصحفي و«البحث عن فضيحة» كما يقولون.
وفي هذا الإطار، لا نغالي إذا قلنا إن وسائل الإعلام تظهر اهتماماً كبيراً بنشر أخبار الجرائم مع التركيز بوجه خاص على الصور العنيفة والمثيرة والغريبة منها. والاعتقاد السائد لدى شريحة عريضة من الجمهور هو أن وسائل الإعلام مسئولة إلى حد بعيد عن تفاقم الإجرام في المجتمعات المعاصرة.
وإذا كان مفهوماً ومقبولاً أن يهتم الإعلام بالنشر عن «قضايا الرأي العام»، فإن الأمر يثير التساؤل ويبعث على الحيرة والاستغراب في حالة الجرائم العادية التي لا تحظى بحسب طبيعتها باهتمام قطاع عريض من الجمهور، وبحيث إنه لن يترتب على عدم نشر أخبار عنها امتعاض آحاد الناس.
وبعيداً عن الاعتبارات الإنسانية، وإذا نظرنا للموضوع من زاوية المنفعة المجتمعية، وفي تبرير نشر أخبار الجرائم أو «الحوادث والقضايا» على حد تعبير وسائل الإعلام، يؤكد الإعلاميون على واجب وسائل الإعلام في أن تورد كل الأخبار عن المجتمع، السيء منها والطيب، حتى لا تقتصر على إظهار الحقيقة بوجهها المشرق دون المظلم. كذلك، فإن من شأن نشر أخبار الجريمة إثارة مشاعر الجمهور الذي سوف يطالب بتحقيق العدالة في مواجهة الجناة.
وقد يرى رجال القانون أن مبدأ علانية المحاكمات الجنائية يوجب نشر أخبار في وسائل الإعلام حتى يتحقق الجمهور من حسن إدارة العدالة ومن أن كل مخطئ قد لقي جزاءه. وبهذا، يحقق القانون وظيفته التربوية لاسيما وأن الجمهور يندر أن يستعمل حقه في حضور جلسات المحاكمة العلنية. وقد نجد تبريراً آخر للنشر من زاوية علم النفس، حيث إن كثرة الحديث عن الجرائم قد يكون ذا أثر مهدئ ومانع من الانزلاق إلى مستنقع الجريمة لدى كثير ممن تراودهم الأفكار الإجرامية. فقراءة أخبار الجريمة والمشاعر التي تنجم عن ذلك قد تعتبر بمثابة تعبير عن رغبات إجرامية مكبوتة وتنفيس عنها أو بديل لها، وعندئذ لا يحتاج المرء إلى ارتكاب الجريمة.
يضاف إلى ذلك أن نشر أخبار الجريمة قد يسهم في تحقيق الردع العام بتخويف الناس من سوء عاقبة الإجرام وما يجره من وبال، ولاسيما في حالة إبراز الآثار السيئة للجريمة على المجرم من خلال نشر مشاهد القبض عليه واقتياده لحضور جلسات المحاكمة.
في المقابل، يرى علماء الإجرام أن المبالغة في نشر أخبار الجرائم في وسائل الإعلام يلعب دوراً إجرامياً واضحاً، الأمر الذي يبدو جلياً من نواح عدة؛ فمن ناحية أولى، قد يؤدي نشر أخبار الجرائم إلى زيادة نسبة ارتكابها، حيث يقوم المجرمون المحتملون بتقليد المجرمين بالفعل الذين نشرت أخبار جرائمهم، لاسيما في الحالات التي يلجأ فيها هذا المجرم إلى استغلال وسائل التقدم العلمي والتكنولوجي في ارتكاب جريمته. ومن ناحية أخرى، فإن كثرة ترديد أخبار الجريمة قد يخلق نوعاً من اللامبالاة لدى الجمهور ويعود الرأي العام عليها فلا تعود تثير لديه أي نوع من السخط الاجتماعي. ومن ناحية ثالثة، فإن نشر أخبار الجرائم في وسائل الإعلام قد يضر بحسن سير العدالة الجنائية، من خلال المحاكمات الصحفية والإعلامية، حيث يقوم الصحفيون ورجال الإعلام بإجراء التحقيقات الصحفية ويصدرون أحكامهم فيها على طريقتهم الخاصة ويعبرون عن آراء يرونها مطابقة للحقيقة خلافاً لكل الضمانات القانونية التي ينص عليها القانون، ولاسيما قرينة البراءة. ولا شك أن التحقيقات والمحاكمات المسبقة التي تقوم بها وسائل الإعلام تعرقل تكوين عقيدة القضاة وتجعلها تميل إلى تفسير قد لا يتطابق مع الحقيقة بحال. وإذا افترضنا أن رجال القضاة سوف يظلون بمنأى عن هذا التأثير الضار، وبحيث يقومون بتكوين عقيدتهم في ضوء الأدلة المطروحة عليهم، دونما تأثير لوسائل الإعلام، فإن التأثير الضار لوسائل الإعلام يبقى قائماً من خلال ما قد يحدث من زعزعة الثقة في أحكام القضاء، بحيث يعتقد البعض أن هذه الأحكام مجافية للحقيقة التي استقوها من وسائل الإعلام، فلا ينظر الناس إلى هذه الأحكام باعتبارها عنوان العدالة.
وعلى هذا النحو، ومن خلال العرض السابق، يبدو جلياً أن الاعتبارات الإنسانية تتضافر مع الاعتبارات النفعية المجتمعية للقول بضرورة الحد من نشر أخبار الجرائم في الصحف ووسائل الإعلام، الأمر الذي يتحقق من خلال حظر النشر إلا بضوابط معينة. وإذا تحقق ذلك، فإننا يمكن أن نتحدث عن أنسنة العدالة الجنائية وأنسنة الإعلام في آن واحد. والله من وراء القصد…